مراجعة فيلم Through A Glass Darkly
في الدقائق الأولى من “عبر زجاجٍ مُعتم”، نجد ما قد يبدو من بعيد عائلة سعيدة ، أربعة أفراد نراهم من على مسافة يطلون معًا من قلب الشاطئ وتعلو أصوات ضحكاتهم في صباح يوم صيفيّ رائق يغمره ضوء الشمس. لكن الصورة لا تظل كما هي، فيفعل بيرجمان ما يهوى دائمًا أن يفعله، تتهاوى مشاهد السعادة والانسجام سريعًا وندرك أنها لم تكن سوى غطاء هش يخفي من تحته حقيقة قبيحة.
من قلب اليوم الصيفيّ الرائق، تهب عاصفة وأمطار يعكسان الحالة الواقعية للأبطال. الأفراد الأربعة هم أب وابن وابنة وزوج الابنة في إجازة معًا على شاطئٍ ناء، تجمع بينهم علاقات مضطربة تجلس الابنة “كارين” في منتصفها تمامًا. فالأب هو كاتب روائي ذهب به عمله بعيدًا عن أبنائه مخلفًا ورائه مسافة يملؤها شعور الأبناء بالمرارة والهجر. والزوج يقارب الوالد في السن، ما يوحي لنا أن الابنة قد تكون اتخذته كتعويض عن فقدان الأب. أما الابنة، فبالرغم من أنها بدت طبيعية تمامًا في البداية، إلا أننا سرعان ما نكتشف أنها تعاني من مرضٍ نفسي عضال وهلاوس تجعلها تتمثل أشياء غير موجودة.
يعود بيرجمان مرة أخرى لما كان قد أشار إليه في “الختم السابع” من تزاوج شعوري الإيمان والحب ومثّله عبر عائلة يوف وميا، لكن هذه المرة، فإنه يثبت الشيء نفسه بطريقة عكسية. نرى في فيلم “عبر زجاجٍ معتم” غياب تام للمشاعر الدافئة، ما ينعكس بشكل واضح على كارين أكثر الأشخاص حساسية. فوالدها الكاتب يستغل مرضها ويشعر بـ”فضول عارم ورغبة شديدة في تسجيل كل تفاصيل تفسخ عقلها” ليستخدمها بعد ذلك كموضوع في أحد كتاباته كما دوّن في مذكراته. وزوجها الطبيب بالرغم من علمه التام بسوء حالتها إلا أنه لا يتوقف عن الضغط عليها ليطارحها الغرام وعندما تلتفت بعيدة عنه يؤنبها بنظراته وكلماته التي تتظاهر بالرقة وتبطن رغبة. وفي وسط كل هذا، لا تجد كارين من تتجه إليه سوى لله نفسه.
تسارع كارين في محاولة ردم الفجوة التي تركها غياب الحب الصادق في حياتها بالإيمان. لكن إيمانها يتخذ منحى آخر في عقلها الآخذ في الذبول، فتحاصرها أصوات تدعوها لسقيفة البيت حيث تجثو على ركبيتها حينًا وتتحسس الجدران أحيانًا أخرى في انتظار أن يطل الله عليها من أحد الشقوق. تهرب كارين لهلاوس وصور لمكان غير موجود: “أدخل غرفة عملاقة أجدها مُضاءة ويغمرها شعور بالأمان. هنالك أشخاص يسيرون فيها ذهابًا ورجعة، بعضهم يتحدث إليّ وأفهمهم، تشع وجوههم نورًا. الكل منتظره أن يأتي، لكن لا أحد يشعر بالقلق، يقولون إنني من الممكن أن أكون موجودة عندما يأتي. أحيانًا أشعر بتوقٍ شديد، بشوق لتلك اللحظة التي سُيفتَح فيها الباب وتتجه كل الوجوه إليه، إلى الله”.
لا يقول بيرجمان ذاك صراحة، لكننا نشعر أن جنون كارين ناتج بالأساس عن افتقادها للحب، ولجوئها لهلاوس تأخذ شكل ديني ناتج عن الشيء نفسه. ففي أفلام بيرجمان العلاقة دائمًا وثيقة بين الإيمان والحب؛ فإيمان عائلة يوف بإله يراقبهم ويحفظهم من بعيد والحب الذي يشعرون به تجاه ذلك الإله ينعكس على علاقتهم ببعضهم البعض؛ وعدم إيمان الزوج والأب في فيلم “عبر زجاج معتم” يترجم نفسه في البرود والاستغلالية التي يتعاملون معها مع كارين الضعيفة، ونفس تلك البرودة تكن ما يجعل عقلها ينجرف بعيدًا عن الواقع لعالم موازي فيه إله يحنو إليها ويعوضها عمّا افتقدت في تلك الحياة.
لكن حتى ذلك الملجأ يضن عقلها به عليها، ففي تتابع أخير في الفيلم، تتمثل كارين الإله بالفعل، لكنه لا يكون حينها سوى عنكبوت مرعب وعملاق يهجم عليها فتصرخ وتتأوه في رعب. في تلك اللحظة، ندرك أن كارين انجرفت تمامًا في الجنون، وأن القسوة ابتلعت حتى خيالاتها وحوّلت مصدر الطمأنينة لشيء مرعب.
بعد أن شهد ما شهد، يتجه أخو كارين المراهق لأبيه مضطربًا يشكو له عجزه عن العيش في هذا العالم بعد الذي رآه، فيرد عليه الأب بضرورة وجود ما يسنده. يسأله الابن: “أهو الرب؟ أعطني إذن دليل على وجوده، لن تستطيع”. ليرد عليه الأب: “كل ما أستطيع أن أخبرك به هي فكرة من صنع آمالي الشخصية: الحب موجود في هذه الحياة، لا أعرف إن كان هذا الحب هو دليل على وجود الله أم أن الحب هو الله نفسه”.
بقلم Maha Fagal