مقالات

هل يمكن أن تكون السرقة فعلًا ثوريًا؟

ستعتمد إجابة هذا السؤال بشكل كبير عمّن تطرحه عليه: ففي عيون الدولة، من يخرق القانون هو مجرم يستحق العقاب، أما الجماهير العريضة، فترى أنه لو كان المقياس الحقيقي للجريمة هو كونك تؤذي شخصًا أم لا، فلن تصير العصابة في “لا كاسا دي بابل” مجرمين، بل الدولة والأنظمة العالمية التي تقف بجانب الكيانات الاقتصادية التي تساهم في إفقار الشعوب هم المجرمون الحقيقيون. ومن ثم، سيصبح الخروج عن طوع أولئك المجرمين وعصيانهم وأنظمتهم والثورة عليهم بمثابة فعل مقاومة بطولي، يجعل ممن يقومون به أبطال.

يلعب مسلسل “لا كاسا دي بابل” باستمرار على هذا الوتر. فالبروفيسور يضع عملية السطو في الجزئين الأول والثاني لا في إطار الجريمة بل في إطار الفعل الثوري. وهو ما يفسر كون أغنية “بيلا تشاو”، التي غناها الثوار الإيطاليون قديمًا في مواجهة الفاشية بمثابة النشيد الرسمي له وللعصابة، تروي لنا طوكيو هذا في الجزء الأول وتقول: “تتمحور حياة البروفيسور حول فكرة واحدة: المقاومة. علمه جده الذي انضم للثوار ضد النظام الفاشي في إيطاليا هذه الأغنية، وقام هو بتعلمينا إياها”.




وبهذا، يضع البروفيسور الأنظمة الحديثة في نفس الكفة مع الفاشية القديمة، فكما ارتكبت الفاشية جرائم بشعة في حق الانسانية، ترتكب الرأسمالية الحديثة جرائم، وإن كانت أكثر خفاء، إلا أنها لا تقل بشاعة عن الفاشية. فهي السبب وراء الازدياد المطرد للفجوة بين الأثرياء والفقراء، والحكم على الملايين بالعيش في فقر حياة غير كريمة. هنا، يتحول التلاعب بذاك النظام الفاسد، عن طريق القيام بما يفعله من طبع النقود وضخها مباشرة في الاقتصاد بحيازة أفراد العصابة عليها، بدلا من تحويلها مباشرة لرؤوس أموال إضافية للأثرياء كما تفعل الدولة، في وجهة نظر البروفيسور وعصابته وأعداد غفيرة من الجماهير، من جريمة لفعل تمرد.

يستمر المسلسل في اللعب على نغمة السرقة كفعل ثوري في الجزء الثالث. فالمحرك الأساسي للأحداث في هذا الجزء كان القبض على ريو وإخفاءه في بلد غير معروف وتعريضه للتعذيب. فكما يقوم الرفاق من أعضاء الحزب الواحد بالزود عن بعضهم البعض، يتصدى البروفيسور وباقي أعضاء العصابة للقبض على ريو ويقومون بالاحتجاج عبر الشيء الوحيد الذين يجيدون فعله: السرقة. ومرة أخرى، ينأى البروفيسور عن تأطير عملية السطو في إطار الجريمة ويضعها عوضًا عن هذا في إطار الفعل الثوري؛ وهو ما يظهر بوضوح في خطابه للجماهير بعد أن أمطر عليها من السماء 140 مليون يورو: “هذه الرسالة لكل من يرى في القناع رمزًا للمقاومة، نحن نحتاج إليكم. لقد شنت الدولة علينا حربًا، حربًا قذرة، ولقد قررنا أن نواجههم. اعتقلت الشرطة واحدًا منا في بلد أجنبي بلا أي إجراءات قانونية في مكان مجهول، ويقومون على الأرجح بتعذيبه. نطالب بالإيقاف الفوري لهذا الاعتقال غير القانوني، لقد بدأت الدولة هذه الحرب ونحن لن نختبئ، سنقاومهم، ضربة أمام ضربة”.




يمكنك أن تلاحظ بنفسك كيف أن خطاب البروفيسور هنا أقرب لخطاب زعيم ثوري منه لخطاب رئيس عصابة، فيكثر من استخدام كلمات على غرار “المقاومة\الحرب”، والتي تنتمي للمعجم الثوري أكثر بكثير من انتمائها بالطبع للمعجم الإجرامي.

يستلهم “لا كاسا دي بابل” في لعبه على تلك النغمة تراثًا طويلًا من الأدب والسينما، يرى في السلطة رمزًا للفساد والظلم، وفيمن يخرج عليها بطلًا مغوارًا. ففي قصص “زورو”، الأب الروحي للأبطال الخارقين، التي أبتدعها جونستون ماكالي في مطلع القرن الماضي، كان عدو زورو في كل القصص هو حكومة كاليفورنيا الفاسدة وممثلوها الذين يظلمون الشعب وينهبون ثرواته.

يستغل المسلسل الإسباني المناخ العام الذي يسود العالم اليوم من استياء الشعوب من السلطة ورموزها، ويخلق حالة من التماهي معهم عبر تصويره لتلك السلطة بشكل سلبي، فأفرادها دميمي الهيئة ذوي ذكاء متواضع مقارنة بأعضاء العصابة ورأسهم المدبر البروفيسور؛ كما يولد حالة شعورية من الانتصار لدى المشاهدين الذي تماهوا مع العصابة عندما يرينا كيف أن مجموعة صغيرة من الأفراد المهمشين قادرون على الإيقاع بالسلطة وهزيمتها في كل مرة. وباستخدامه لتلك التيمة الفكرية ومزجها مع جرعات مكثفة من الإثارة والأكشن، نجح “لا كاسا دي بابل” بأجزائه الثلاثة في أسر الملايين حول العالم، وإن شابه الكثير من العيوب على المستوى الفني، تجعل منه أبعد ما يكون عن أعظم عمل في التاريخ كما يحب بعض عشاقه أن يطلقوا عليه.

بقلم Maha Fagal

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى