مراجعة فيلم Parasite
بين يدي مخرج أقل حساسية من بونغ، ربما انتهى فيلم “طفيلي” كمحض عمل فني آخر يغلب فيه الفكر على الفن وينحو منحى الخطابة. لكن، وبما أننا نقف أمام مخرج بارع، فقد وظّف بونغ كل عناصر صورته لتخدم المعنى الذي أراد بشكل هادئ وعميق يدخل لصميم المعاني دون أن يحيطها بخطب رنانة وعبارات جوفاء.
نجد ذلك بوضوح في اختيار بونغ لبيتي العائلتين. فتسكن أسرة كيم في قبو تحت الأرض، وتعيش عائلة بارك في بيت أعلى تلة. ومن هنا، ينطلق بونغ في صنع صورته السينمائية التي تخبرنا دون كلمة واحدة كيف تسكن كل واحدة من العائلتين في عالمين، يتشاركان المدينة نفسها، ويقعان على طرفي النقيض في كل شيء.
فقبو أسرة كيم مصمت لا أبواب له ولا نوافذ عدا نافذة صغيرة متسخة، تطل على حي خَرب وزقاق يتبول عنده سكير كل يوم، ومن ثم نجد الإضاءة في بيتهم تغلب عليها العتمة. أما بيت عائلة بارك، فله زجاج شفاف يطل على حديقة واسعة تسطع فيها الشمس طوال الصباح وتغمره بضوء أبيض. وانعكاسا لضيق بيت أسرة كيم ذي السقف الواطئ، نجدهم غالبا يتشاركون الإطار نفسه جالسين أو مستلقين على الأرض، يصورهم بونغ من زاوية منخفضة لقطات متوسطة، أما في بيت عائلة كيم الكبير، يختار بونغ أن يصوّر من زوايا أعلى.
وفي اختيار جغرافية المكان مجازات عميقة يلعب عليها بونغ في أحداثه وحواراته. فالفقراء دائما متخفّون كالجرذان تحت الأرض، بعيدا عن ناظرَيْ الأثرياء الذين لا يلبثون أن ينسوا وجودهم ويتأذّون لأقل شيء يُذكّرهم بهم. ويحرص الفقراء بدورهم على مرأى الأثرياء أن يتخلصوا من كل مظاهر الفقر، فيبدو أفراد عائلة كيم أمام عائلة بارك مهندمين، يرتدون ملابس نظيفة بل وأنيقة أحيانا. شيء وحيد لا يستطيعون التخلص منه ويكشف عن عيشتهم المتواضعة؛ إنه الرائحة.
رائحة الفقر تنبعث منهم، رائحة الفقر والسكنى تحت الأرض والانتقال في وسائل النقل العامة مكدسين بين مئات الآلاف، رائحة عدم القدرة على الحصول على مياه نظيفة وشراء ملابس جديدة. إنها تلك الرائحة التي لا مهرب منها التي تهدم كل وهم عن انهيار الحواجز الطبقية، وتجعل البعض يخجل من جسده وما يصدر عنه، بينما يلوي الآخر وجهه في امتعاض.
تتشارك أسرتا كيم وبارك الفضاء نفسه، لكن عوالمهما المنفصلة تجعل لكل واحد منهم رائحته الخاصة. فتهطل الأمطار على الجميع في المدينة، لكنها في أحياء الأثرياء تغسل الشوارع وتنظف الحدائق التي تعطر رائحتها الهواء، وفي أزقة الفقراء التي لم تكترث لها الدولة فتوفر لها بنية تحتية، تمتزج مع مياه الصرف وتغرق كل شيء. المطر نفسه يهطل على العالمين، لكنه ينظف واحدا ويغرق الآخر أبعد وأبعد في أعماق الفقر والذل والحاجة. وتماما مثل تلك المجاري التي طفحت لتغرق كل شيء، جاءت لحظة التصاعد الأهم في الفيلم عندما ضاق ذرع الفقراء بكل شيء، وصارت التواءة وجه أحد الأثرياء تأففا من رائحة الفقر كافية للقتل.
رحلت الأسرة الثرية واستبدلتها أخرى، ورحل شبح القبو الفقير واستبدله آخر، لكن النظام الذي وضع كل من أولئك في مكانه ظل يدور، ليُعلي من شأن البعض، بينما يطحن البعض الآخر لمدى لا يعلمه أحد، فكما قال الفيلسوف سلافوي جيجيك: “من الأسهل أن نتخيل نهاية العالم على أن نتخيل نهاية الرأسمالية”.
فاز الفيلم البارحة بجائزة أفضل فيلم أجنبي في جوائز الجولدن جلوب. في رأيك، هل كانت تلك جائزة مستحقة؟ أم هل تمنيت أن يفوز فيلم آخر من الأفلام المرشحة بالجائزة؟
بقلم Rofayda Taha