مقالات

مراجعة فيلم Amour

الفيلم الذي عنوانه “حب” لا يوحي على الأرجح بأن المحب يقتل حبيبته بيديه، والشقة الباريسية المؤثثة برقي وأناقة، قد لا توحي بأنها ستشهد انحدار ساكنيها إلى أرذل حالاتهما وأشدها وهنًا، لكن مايكل هانيكه حتى في فيلم عن الحب لا يبتعد كثيرًا عن نظرته العدمية للعالم، حين يسأله صحفيّ مرة هل ترى النصف الفارغ أم الممتلئ من أي كوب، يقول: “النصف الفارغ طبعًا، من هو المتشائم على أي حال؟ أليس إلا شخصًا يصعب خداعه؟”

آمور حكاية محبين من الطبقة البورجوازية، -الطبقة التي تنتمي لها أغلب شخصياته-، تسحقهما الشيخوخة كحتمية لا فرار منها، وتفشل امتيازات طبقتهما في حمايتهما، إنه قصة الموت الذي يملي شروطه على حياة كانت عريضة وجزلة، والزمن الذي يعطي كل حكاية بشرية نصيبها الكامل من السخرية، ولا يبخل على أبطالها بأشكال الذل والعجز والمهانة، كلما تجرؤوا على الصمود أمامه لمدة أطول.




باستثناء دقائق قليلة في الفيلم، لم تترك الكاميرا منزل جورج وآن، فالمنزل في أفلام هانيكه هو أحد شخصيات العمل، ولأنه أكثر حصون الإنسان أمنًا في مواجهة العالم، يختاره هانيكه ليضع أبطاله فيه تحت وطأة القلق والخطر والألم، ويعري هشاشة ذلك الحصن.

في بداية الفيلم يعود الزوجان من حفلة موسيقية، فيكتشفان أن أحدهم حاول اقتحام الشقة، لا يخبرنا هانيكه شيئًا عن هوية الفاعل، ربما هذا المقتحم هو نذير النهاية، بعد أن اقتحم خريف العمر حصنهما الآمن، ووضع بصمته القاتمة الثقيلة فوق كل شيء، ونصب نفسه حاجزًا حتى أمام تواصل حبهما الصادق العميق؛ فآن تفقد النطق مع تدهور جسدها، ينعدم الحوار بينهما، ولا تصمد سوى كلمات متقطعة لجورج، بينما تكتفي الحميمية منهما بنظرات عاجزة، وعناية جورج الفائقة بآن.

قدرة الإنسان على الخروج من عزلته والتواصل والتعبير عن ذاته وفرادتها أمر شغل هانيكه في العديد من أفلامه، في “معلمة البيانو” تعاني البطلة من إحساس حاد بالعزلة والوحدة، في “شفرة مجهولة” يعبر عن انعدام أقل فرصة للتواصل في المجتمع الأوروبي الحديث، الأبطال يسمعون بعضهم من داخل قوقعاتهم المنعزلة، بلا اهتمام أو فهم، في مجتمع متشظٍ ومفكك تكون كل محاولات التواصل فاشلة بالضرورة، في “آمور” -حتى مع وجود الحب الكبير الصادق-، يبدو أن العزلة وانقطاع كل تواصل بشري، هو المصير المحتوم للإنسان، المصير الذي يهزم حتى حبًا بهذا التاريخ الطويل.




على الرغم من اسم الفيلم، إلا أنه خالٍ تمامًا من أي مبالغة عاطفية أو مشاعر جياشة، إنه حب رزين صادق، هادئ لا ينفعل، وناضج يدرك أنه في خضم معركته الأخيرة، وأنه يخوضها من موقع المهزوم. لهذا بدلًا من المشاعر المفرطة، يركز هانيكه على تفاصيل محنة الجسد الذي أوهنه المرض، والزمن، ويسرد بمشاهد مزعجة ودقيقة كيف تخفت الحياة في جسد إنساني يذبل ويضحمل، بعد أن كان يومًا نابضًا بالبهجة والرغبة.

الصورة المزعجة التي لا يتزين فيها الفيلم للمشاهد هي إحدى معالم أفلام هانيكه، هو يرفض عرض الألم بصورة أقل قبحًا، أو إضفاء عذوبة ما على لحظات المعاناة الخالصة، لهذا يصف أفلامه بأنها ردة فعل غاضبة على سينما هوليوود وتتفيهها للمشاعر وابتذالها، إنه يؤمن أن عرض الألم بشكل أقل حدة لا يواسي المشاهد، ما يواسيه هو أن يواجه مخاوفه بكل عمق وقسوة.

بعد خسارة جسدها، تحاول آن رفض الطعام والشراب، إنه شكل الرفض الوحيد المتبقي لها، وسبيلها نحو الموت والخلاص من إهانة الحياة لها؛ يصل جورج إلى نفس النتيجة المنطقية أخيرًا، لا مفر من إنهاء حياتها حبًا لها، لم يعد بمقدوره احتمال رؤية بؤسها وعجزهما معًا.




الاستمرار بلا معنى، حتى مع وجود الحب، فلا طائل من كل هذه المعاناة، ولا انتصار أمام الألم سوى إيقافه، هذا الشكل من تعريف الخلاص ثيمة تتكرر في أفلام هانيكه، في “القارة السابعة” تقرر عائلة كاملة قتل نفسها، وفي “نهاية سعيدة” يريد جورج أن يساعده أحد على إنهاء حياته، العدمية وسيلة هانيكه لتفكيك الحياة والعالم.

بعرض القتل كفعل حب، يبعد هانيكه الخير والشر عن أي تعريفات مقولبة، هنا يكون الخير مصدرًا للشر، والحب مصدرًا للموت، إنه يطرح السؤال، هل يمكن للخير في هذا العالم أن يكون كاملًا؟ وهل يملك الحب أن يبقى مثاليًا؟

بقلم Rofayda Taha

Related Articles

One Comment

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button