مراجعاتمقالات

مراجعة فيلم Amadeus

“أنا عراب العاديين في العالم، أيها العاديون في كل مكان، أنا أغفر لكم، أنا أغفر لكم”، معذبًا ومنكسرًا كان يردد العجوز “سالييري” على كرسيّ اعترافه، وبين المجانين، ليرسم المشهد الذي اختاره “ميلوش فورمان” ختامًا لعمله الكبير “أماديوس”، كأحد أفضل النهايات وأجملها في السينما.
الطفل “سالييري” كان يساوم الإله من أجل شغفه بالموسيقى، يسأله في صلوات صادقة طويلة أن يمنحه مستقبلًا حافلًا بمجد الموسيقى وشهرتها، على أن يمضي حياته صالحًا، عفيفًا، وأن يكرس عمره وعمله ليتمجد اسم الرب في كل مكان.

يعاني “سالييري” أزمة مع الهدف المتخيل من وجوده، ومكانته التي يحلم بها في العالم، إنه رجل لا يقبل ضآلته، وعاديته، وموقعه المحدود من المكان والزمان، لا يفهم كيف يوزع الإله هباته على عباده، ولا كيف تعمل الصلوات التي ظن أنها أجيبت حين أصبح موسيقار البلاط الامبراطوريّ، تمامًا على الدرب التي يظنها وعد المجد والخلود، يكتشف أن ثمّة شاب ماجن مستهتر وأخرق يستطيع بسلاسة ويسر أن يؤلف أعذب موسيقى سمعها في حياته، اختار الإله موتسارت لـ “يتجسد من خلاله”، أما هو فمنحه القدرة على تمييز الجمال واللحن الإلهيّ، ثمّ حرمه الخيال الخصب الذي يتطلبه خلق جمال مماثل.




كل إنسان يعيش “في ظل نظرة ما” بتعبير كونديرا الذي يعتبر أن تفاصيل وجود المرء أو تصوراته عن وجوده تنضج تحت قبة من عيون تراقبه أو خيالات عن عيون تراقبه، وتحت القبة ذاتها تتكون دوافع المرء التي لا يعلم أحد عنها شيئًا؛ عين الرب كانت صاحبة النظرة التي تحت قبتها يفسر سالييري وجوده وتفاعله مع العالم.

يمضي سالييري حياته متأرجحًا بين رجائه أن يؤلف يومًا تلك القطعة التي ستمنحه الخلود، وبين غضبه من الإله الذي أعطى معجزته لغيره، الغيرة تسمم عقل سالييري وقلبه، والأسئلة التي ترتدّ عن قُبته بلا إجابات تجعل السم أكثر فتكا وإيلاما، حتى ينزع سالييري الصليب من على جدران غرفته، ويلقي به في النار، سيكرس حياته للانتقام من الإله، ومعجزته.

موتسارت له قبة أخرى، عينا والده ليوبولد؛ ليوبولد هو الرجل الذي درب موتسارت وصقل مهارته، ثمّ قدّمه منذ طفولته الباكرة إلى محافل الموسيقى وبلاط الملوك، لم يكن يريد أن يرى ابنه سكيرًا غارقًا في الديون متزوجًا من فتاة لا تناسب العائلة، كان يحلم لموتسارت بمستقبل باهر ومجد خالد، أما موتسارت فكان يعجز عن الالتزام بمواعيد العروض والتسليم، أو تعلّم بروتوكولات النبلاء، كان يعترف: أنا بذيء ووقح، لكن موسيقاي ليست كذلك.




بعد ليلة من السكر والسمر، يعود موتسارت إلى منزله ليتلقى خبر موت والده، المشهد التالي هو صورة هائلة وغاضبة لليوبولد على جدران منزل موتسارت. منذ هذه اللحظة يبدأ موتسارت في انحدار متسارع، في عمله الأوبرالي التالي يرى الجمهور عملاقًا مخيفًا أسود يهجم على المسرح، يعلم سالييري أن موتسارت المعذب يستدعي والده الذي يرهبه ويلهمه.

الصليب معلّق على وجود سالييري قبل غرفته، بعمق لا يصله احتراق الصليب في المدفئة، وصورة الأب الغاضب معلّقة على وجود موتسارت قبل منزله، بقوة لا يهزمها تحلل الأب تحت التراب.
ضمن خطته للانتقام من الإله، يرتدي سالييري زيّا تنكريّا لوالد موتسارت، ثم يطرق باب موتسارت فجأة، ويطلب منه تأليف عمل رثائي لميت يستحق رثاء جليلًا لم يحصل عليه أبدًا، هيبة الرجل الغامض ذي الطلب الغامض وهيبة والده زاد من تدهور موتسارت الذي أصبحت تعذّبه المقطوعة التي يؤلفها، اعتقد أنه يرثي نفسه، ويستعد لتأبين جثته.




في اعترافه أمام القسّ يقول سالييري أنه رأى موتسارت يؤلف وكأن الإله يُملي عليه ما يكتب، على فراش موته، كان موتسارت المنهك يُملي على سالييري مقطوعته الأخيرة، كان الشاب الموهوب في عقل سالييري التجسد الحقيقيّ للإله؛ يُدفن موتسارت المُفلس في مقبرة جماعيّة نائية، بتأبين مقتضب لا يشبه مقطوعته الخالدة حتّى وهي ناقصة.

لم تكتمل كتابة الرثاء الذي أراده سالييري، مرة أخرى كان سالييري ينهزم أمام الإله، هزيمة رجل عادي يرتكب خطيئة التوق للخلود، يُنهي اعترافه أمام القس الذي يظل صامتًا تائهًا ولا يواسيه، ربما كمزيد ممّا يعتقد سالييري أنه ضحك الإله منه، واستهزاؤه بألمه، يعترف بعاديته، وينتهي المشهد بصوت ضحكة مستهزئة لموتسارت، ظِلُّ الإله الذي ظَلَّ يخيم على بؤس سالييري 32 عامًا، يشاهد معه تحلل جسده وفناء موسيقاه.

بقلم Rofayda Taha

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى